قصة البئر
صفحة 1 من اصل 1
قصة البئر
لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها ، فاللعنة تسكنها ، و تحل على كل من حاول أن يقترب و
لو على مرمى حجر منها ، و الشواهد الدالة على شؤمها و أفعال الشياطين التي تسكنها
ليست خافية على أحد ، فهذه " حمدة الهبلى " ما زالت تجوب الأزقة و هي ترفع ثوبها إلى رأسها
، تلطم حيناً و تضحك أحياناً ، و السبب كان البئر ، إذ إنها تحدت كل الروايات و أقسمت أن تشرب
من باء البئر ذات ظهيرة ، و حين عادت كان المس قد تملكها ، فراح الصبية في الحارة يطاردونها
بلا كلل ، و يلقون عليها الحجارة ، و كانت حمدة تتوعدهم ، و حين علموا أنها لن تؤذيهم ازدادوا
إصراراً على مطاردتها ، رغم نصائح الأهل المتكررة لهم و تهديدهم في أغلب الأحيان بأن الله
سوف يعاقبهم و يجعلهم مثلها تماماً ، إلا أن المنظر الذي أصبح مألوفاً لكل سكان الحي هو
مرور " حمدة الهبلى " أمام أصحاب البقالات ، و الدكاكين ، أحياناً كانت تبصق عليهم و أخرى
كانت تلاطفهم ليمنحوها حبة من الحلوى .
أما " سلامة " فقد أقسم أن يعرف سر البئر ، و أن يصارع كل شياطينها ، فإنه حين حمل
بندقيته صباح ذلك اليوم القائظ ، و أعلن لك أهل البلدة عزمه الأكيد على الشرب من ماء البئر ،
و أنه – إن لزم الأمر – سيقوم بقتل كل الشياطين التي تستوطنها و تجعل من قعرها بيوتاً لها .
و حين حاول أهل البلدة كلهم أن يثنوه عن فعلته تلك ، أصر على أن ينفذ ما يدور في رأسه ،
و لم يكن أمام الجميع إلا الدعوة له بالعودة الميمونة ، و الانتصار المظفر على الشياطين التي
سكنت هناك ، و حين غادر " سلامة " ميمماً صوب البئر اجتمع أهل البلدة كلهم بين مصدق و
مكذب ، بين معجب و بشجاعته و بطولته و بين مشفق عليه ما ستؤول إليه حالته حين تركبه
الشياطين و تجعله مطية لها .
أطبق الصمت على البلدة كلها ، حتى ثغاء الشياه أصبح خافتاً لا يكاد يسمع ، و المرضعات
حرصن على أن يرضعن أطفالهن لكي يناموا ، كي لا يسمعوا صوت العراك بين " سلامة " و
الشياطين ، فقد قالوا : إن الصغار من بني البشر و كذلك الحيوانات هم الذين يسمعون أصوات
الشياطين و يرون رؤوسهم المفلطحة و عيونهم المشقوقة في منتصف الجبين .
اختفى " سلامة " من أمام البلدة ، اتجه جنوباً أولاً ثم شاهدوه و هو يتجه شمالاً ، إذ كان يرغب
في أن يحاصر الشياطين حتى لا تراه إلا و هو على حافة البئر ، و سمع صوت حركة أقرب
لشخص يصفق بكلتا يديه ، حدق في أسفل البئر ، كانت المياه تغطيه حتى المنتصف ، أدلى
بدلوه في الماء ، و أثناء محاولته إخراج الدلو ، اندفع طير صغير أسود اللون ، عرف أنه الوطواط ،
أدرك ساعتها أنه الذي كان يصفق جناحيه .
الدلو تمتلىء ماءً ... يسحبها ثم – على مهل – راح يتلذذ بتجرع الماء البارد الذي لم يتذوقه أحد
من البلدة منذ زمن بعيد ... حرص على أن تظل الدلو مملوءة لأنه سيحملها معه عند عودته ثم
راح يردد :
" لن يصدقني أهل البلدة حين أعود ، و سيظلون على قناعتهم بأن هذه البئر مسكونة ، و
يتكبدون عناء المسير ست ساعات متواصلة إلى البئر الأخرى . لا بد من الخديعة ، و لا بد لي
من أن أنتزع من عقولهم قناعتهم ... " دار حول البئر ثم فجأة قفز من أمامه أرنب مذعور فأطلق
عليه رصاصة فقتله .
" ألم نقل لكم إنها المعركة تدور الآن بين " سلامة " و الشياطين ... ؟ كلكم اصمتوا حتى
نسمع ... " تحدث كهل كان يتكىء على جدار البيت و من حوله التف العديد من النساء و الأطفال
و الرجال ... رصاصة ثانية تمزق السكون ... و ثالثة ... و رابعة ... عشر رصاصات كانت تدوي
بين الفينة و الأخرى و البلدة تتقلب على جمر الانتظار ، تلهج ألسنتهم بالدعاء إلى الله أن
يجعل النصر حليف ولدهم .
المختار يردد بصوت أقرب للحشرجة : " سيكون عشاؤه عندي الليلة إذا عاد سالماً " .
صوت أخر : " و سنسهر حتى يطلع الفجر " .
صوت آخر : " و لكن المهم أن يعود " .
البلدة تجتاحها حمى الأسئلة : هل سيعود أم لا ؟ هل سيقتله الشيطان أم لا ؟
هل سيتلبسه الشيطان كما فعل مع حمدة أم ... ؟
و فيما كانت البلدة تسكنها الأسئلة المقلقة الحيرى ، كان " سلامة " يبتسم و هو يرشق دم
الأرنب على جوانب البئر ، ثم يشكل من دمه خيطاً رفيعاً اتجه من البئر إلى الجهة الشرقية .
للكاتب : عبد المهدي القطامين
لو على مرمى حجر منها ، و الشواهد الدالة على شؤمها و أفعال الشياطين التي تسكنها
ليست خافية على أحد ، فهذه " حمدة الهبلى " ما زالت تجوب الأزقة و هي ترفع ثوبها إلى رأسها
، تلطم حيناً و تضحك أحياناً ، و السبب كان البئر ، إذ إنها تحدت كل الروايات و أقسمت أن تشرب
من باء البئر ذات ظهيرة ، و حين عادت كان المس قد تملكها ، فراح الصبية في الحارة يطاردونها
بلا كلل ، و يلقون عليها الحجارة ، و كانت حمدة تتوعدهم ، و حين علموا أنها لن تؤذيهم ازدادوا
إصراراً على مطاردتها ، رغم نصائح الأهل المتكررة لهم و تهديدهم في أغلب الأحيان بأن الله
سوف يعاقبهم و يجعلهم مثلها تماماً ، إلا أن المنظر الذي أصبح مألوفاً لكل سكان الحي هو
مرور " حمدة الهبلى " أمام أصحاب البقالات ، و الدكاكين ، أحياناً كانت تبصق عليهم و أخرى
كانت تلاطفهم ليمنحوها حبة من الحلوى .
أما " سلامة " فقد أقسم أن يعرف سر البئر ، و أن يصارع كل شياطينها ، فإنه حين حمل
بندقيته صباح ذلك اليوم القائظ ، و أعلن لك أهل البلدة عزمه الأكيد على الشرب من ماء البئر ،
و أنه – إن لزم الأمر – سيقوم بقتل كل الشياطين التي تستوطنها و تجعل من قعرها بيوتاً لها .
و حين حاول أهل البلدة كلهم أن يثنوه عن فعلته تلك ، أصر على أن ينفذ ما يدور في رأسه ،
و لم يكن أمام الجميع إلا الدعوة له بالعودة الميمونة ، و الانتصار المظفر على الشياطين التي
سكنت هناك ، و حين غادر " سلامة " ميمماً صوب البئر اجتمع أهل البلدة كلهم بين مصدق و
مكذب ، بين معجب و بشجاعته و بطولته و بين مشفق عليه ما ستؤول إليه حالته حين تركبه
الشياطين و تجعله مطية لها .
أطبق الصمت على البلدة كلها ، حتى ثغاء الشياه أصبح خافتاً لا يكاد يسمع ، و المرضعات
حرصن على أن يرضعن أطفالهن لكي يناموا ، كي لا يسمعوا صوت العراك بين " سلامة " و
الشياطين ، فقد قالوا : إن الصغار من بني البشر و كذلك الحيوانات هم الذين يسمعون أصوات
الشياطين و يرون رؤوسهم المفلطحة و عيونهم المشقوقة في منتصف الجبين .
اختفى " سلامة " من أمام البلدة ، اتجه جنوباً أولاً ثم شاهدوه و هو يتجه شمالاً ، إذ كان يرغب
في أن يحاصر الشياطين حتى لا تراه إلا و هو على حافة البئر ، و سمع صوت حركة أقرب
لشخص يصفق بكلتا يديه ، حدق في أسفل البئر ، كانت المياه تغطيه حتى المنتصف ، أدلى
بدلوه في الماء ، و أثناء محاولته إخراج الدلو ، اندفع طير صغير أسود اللون ، عرف أنه الوطواط ،
أدرك ساعتها أنه الذي كان يصفق جناحيه .
الدلو تمتلىء ماءً ... يسحبها ثم – على مهل – راح يتلذذ بتجرع الماء البارد الذي لم يتذوقه أحد
من البلدة منذ زمن بعيد ... حرص على أن تظل الدلو مملوءة لأنه سيحملها معه عند عودته ثم
راح يردد :
" لن يصدقني أهل البلدة حين أعود ، و سيظلون على قناعتهم بأن هذه البئر مسكونة ، و
يتكبدون عناء المسير ست ساعات متواصلة إلى البئر الأخرى . لا بد من الخديعة ، و لا بد لي
من أن أنتزع من عقولهم قناعتهم ... " دار حول البئر ثم فجأة قفز من أمامه أرنب مذعور فأطلق
عليه رصاصة فقتله .
" ألم نقل لكم إنها المعركة تدور الآن بين " سلامة " و الشياطين ... ؟ كلكم اصمتوا حتى
نسمع ... " تحدث كهل كان يتكىء على جدار البيت و من حوله التف العديد من النساء و الأطفال
و الرجال ... رصاصة ثانية تمزق السكون ... و ثالثة ... و رابعة ... عشر رصاصات كانت تدوي
بين الفينة و الأخرى و البلدة تتقلب على جمر الانتظار ، تلهج ألسنتهم بالدعاء إلى الله أن
يجعل النصر حليف ولدهم .
المختار يردد بصوت أقرب للحشرجة : " سيكون عشاؤه عندي الليلة إذا عاد سالماً " .
صوت أخر : " و سنسهر حتى يطلع الفجر " .
صوت آخر : " و لكن المهم أن يعود " .
البلدة تجتاحها حمى الأسئلة : هل سيعود أم لا ؟ هل سيقتله الشيطان أم لا ؟
هل سيتلبسه الشيطان كما فعل مع حمدة أم ... ؟
و فيما كانت البلدة تسكنها الأسئلة المقلقة الحيرى ، كان " سلامة " يبتسم و هو يرشق دم
الأرنب على جوانب البئر ، ثم يشكل من دمه خيطاً رفيعاً اتجه من البئر إلى الجهة الشرقية .
للكاتب : عبد المهدي القطامين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى